القرن الأفريقي- صراع قوى واحتلالات جديدة في الأفق

بينما كان مسؤول أمني رفيع المستوى في أنقرة يوضح الأسباب الموجبة وراء اتفاقية التعاون الدفاعي المبرمة بين تركيا والصومال، صرح قائلاً: "إن الأحداث المتسارعة في منطقة القرن الأفريقي لا تقتصر فقط على الاتفاقية المثيرة للجدل بين إثيوبيا وأرض الصومال، بل تتجاوزها إلى تطورات أخرى بالغة الخطورة، لا يسعني الإفصاح عنها في الوقت الراهن". وبدا صوته مشوبًا بالقلق العميق.
من جهته، أعرب البروفيسور أحمد كافاس، الخبير البارز في الشؤون الأفريقية والذي شغل سابقًا منصب سفير تركيا في كل من تشاد والسنغال، عن استغرابه الشديد فور علمه بتفاصيل الاتفاقية، قائلاً: "هذه الاتفاقية بهذه السرعة غير مألوفة على الإطلاق، وهناك أمور جلية وكبيرة تحدث في الخفاء".
وما هي إلا فترة وجيزة حتى بدأت الأخبار تتوالى تباعًا، لتزداد الصورة قتامة وغموضًا. وعندما أعلنت الصين عزمها إرسال سفن حربية إلى منطقة البحر الأحمر الحيوية، اتضحت المخاطر الكامنة في هذا الوضع المضطرب بشكل جلي.
اتساع رقعة الصراع: حرب غزة تلقي بظلالها على المنطقة
إن جذور المشكلات والأزمات المتفاقمة في منطقة الشرق الأوسط تعود في المقام الأول إلى السياسات الإسرائيلية، حيث رأينا كيف تحول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني إلى بؤرة توتر ونزاع مسلح في مناطق مختلفة مثل سوريا والعراق ولبنان واليمن. واليوم، يلوح في الأفق خطر حقيقي باندلاع صراع مماثل في منطقة القرن الأفريقي الحساسة.
وهذا الأمر في غاية الخطورة ويستدعي القلق والانتباه، لأنه يمثل ساحة صراع جديدة تضاف إلى ساحات الصراع المتعددة في عالمنا المضطرب. وأي عرقلة أو تعطيل لحركة الملاحة في هذه المنطقة الحيوية والاستراتيجية، التي تعد شريانًا رئيسيًا للتجارة البحرية العالمية، سيكون له تداعيات وخيمة على جميع دول العالم، من إنجلترا إلى الصين.
ولإيضاح أهمية هذه المنطقة، تجدر الإشارة إلى أن حوالي 12% من حجم التجارة البحرية العالمية يمر عبر مياهها. ففي العام الماضي وحده، عبرت ما يقارب 23 ألف سفينة مضيق باب المندب الحيوي واستخدمت قناة السويس، الأمر الذي عاد على مصر بإيرادات تقدر بحوالي 8 مليارات دولار.
إن حجم التبادل التجاري الذي تنقله هذه السفن يقدر بمليارات الدولارات، ولا يمكن الاستهانة به. ولنتذكر جميعًا حادثة جنوح سفينة "إيفر غيفن" العملاقة أثناء دخولها قناة السويس بسبب الأحوال الجوية، الأمر الذي أدى إلى توقف حركة الملاحة البحرية وتعطيلها لمدة أسبوعين تقريبًا. وقد تسبب هذا الحادث البسيط في ارتفاع أسعار النفط العالمية وارتفاع تكاليف الشحن البحري بنسبة تجاوزت 30%.
لذلك، من الضروري التفكير مليًا في الكيفية التي ستؤثر بها النزاعات المحتملة في هذه المنطقة على حركة التجارة العالمية والاقتصاد العالمي بشكل عام. ولا شك أن هذا الأمر كان من بين الدوافع الرئيسية التي دفعت الصين إلى إرسال سفن حربية إلى المنطقة.
البيئة الفوضوية والملتهبة في منطقة القرن الأفريقي
حيثما يحل عدم الاستقرار، اعلم أن هناك قوى أجنبية تسعى إلى تحقيق مصالحها. وحيثما يظهر الإرهاب العالمي، اعلم أن هناك أجهزة استخبارات تقف وراءه وتدعمه. وحيثما تسود الفوضى، اعلم أن تجار السلاح وأمراء الحرب وتجار المخدرات قد وجدوا بيئة خصبة للنمو والازدهار.
لذلك، إذا طالت الأزمة واستمرت الفوضى والاضطرابات في منطقة ما، فاعلم أن هناك صراعًا على المصالح والنفوذ بين الدول الكبرى. والسبب الرئيسي وراء الفوضى المستمرة في هذه المناطق هو الثروات الطبيعية الهائلة، سواء كانت باطنية أو سطحية، بالإضافة إلى المكاسب التجارية الكبيرة والأهمية الجيوسياسية التي تتمتع بها هذه المناطق.
إن كافة الأسباب المعلنة، مثل حماية حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب وتعزيز الديمقراطية، ليست سوى ذرائع واهية وأقنعة زائفة تخفي الأهداف الحقيقية. فالقرن الأفريقي يمثل مثالًا حيًا على كل ما ذكرناه، فهو منطقة ذات أهمية جيوسياسية بالغة، وتزخر بالثروات الطبيعية الوفيرة.
وحتى الصراع الدائر بين البحارة اليابانيين والصينيين للحصول على أفضل وأجود المنتجات البحرية قبالة سواحل الصومال، يوضح بشكل جلي طبيعة الوضع المتأزم في هذه المنطقة.
حروب الوكالة وخطر الاحتلال الأجنبي
لقد اطلعت مؤخرًا على خريطة تفصيلية توضح التوزيع العرقي والتنظيمات والقبائل والمليشيات المسلحة المختلفة في الصومال. وقد أظهرت الخريطة سيطرة حركة الشباب وتنظيم الدولة والقاعدة على مناطق محددة في البلاد، وهو الأمر الذي أثار قلقي العميق.
وإذا قمنا بتوسيع نطاق هذه الخريطة لتشمل دولًا أخرى مثل كينيا وإريتريا وجيبوتي وإثيوبيا واليمن والسودان، فسنجد صورة مماثلة تعكس الوضع المعقد والمضطرب في المنطقة. وهذا هو بالضبط المشهد الذي تسعى إليه القوى الأجنبية الطامعة في المنطقة، حيث تُظهر الخريطة وجود العديد من التنظيمات الإرهابية التي يمكن استغلالها، والقبائل التي يمكن شراؤها، والصراعات التي يمكن تأجيجها، بالإضافة إلى عدم وضوح الحدود والجهل والفقر وعدم الاستقرار.
واليوم، تتنافس قوى إقليمية ودولية مختلفة على النفوذ في منطقة القرن الأفريقي، بما في ذلك إسرائيل وأمريكا وإنجلترا وفرنسا وروسيا والصين ومصر وإيران والسعودية والإمارات وتركيا. وفي ظل وجود هذه القوى الكبرى، لا تستطيع الدول الفقيرة وغير المستقرة أن تفعل الكثير لحماية مصالحها.
ومع ذلك، فإن غالبية الدول والشعوب المتضررة من الأزمات المتفاقمة في المنطقة هم من المسلمين.
وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال آخر لا نجد له إجابة شافية: لماذا لا تتحد الدول الإسلامية لحل هذه المشكلات والتحديات التي تواجهها؟
إن الضغوط الخارجية الناتجة عن الحرب الإسرائيلية الفلسطينية تتجه نحو الانتشار من منطقة الشرق الأوسط إلى منطقة القرن الأفريقي، وهذا الصراع المحتدم سيؤدي إلى عمليات احتلال جديدة وهجرات قسرية وأزمات اقتصادية طاحنة.
وها نحن الآن على أعتاب مرحلة جديدة، وسنشهد كيف ستتطور الأمور وتتصاعد لتشكل ملامح الحرب العالمية الثالثة.
